قصة الفتاة الوديعة
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في مدينة من مدن المنطقة الشرقية، كانت تقبع عائلة محترمة مكونة من خمسة أفراد، في بيت متهالك، ولكنهم كانوا يعيشون في هناء وسرور على بساطة معيشتهم وتواضعهم راضين بما قسمه الله لهم من رزق حلال، يؤمنون بقضائه وقدره ...
وفي يوم من الأيام أراد الله سبحانه وتعالى امتحان هذه العائلة، ومعرفة مقدار الإيمان في قلوبهم، وكان ذلك الإمتحان الصعب قد وقع على الفتاة الوديعة...
كانت تعاني الآلام المبرحة التي بموجبها أصبحت طريحة الفراش، عجز الأطباء في انقاذها، وبقت هي صامدة مسلمة الأمر الى بارئها عز وجل، فقلبها المؤمن ما فتئ يذكر الله في كل لحظة، انه الإيمان المتأصل في كينونة هذه الفتاة الوديعة..
بدأت معاناة هذه الفتاة عندما كانت تتنزه مع والدها جعفر في أحد متنزهات المنطقة، وفجأة أحست بألم في رأسها صاحبه دوخة بسيطة، أمسكها والدها جعفر بلطف وراح يمسح بيده على رأسها الموجوع، متسائلا إياها:
ماذا تشعرين يا ابنتي؟
أشعر بألم شديد في رأسي يا أبي!!
الأب: لا عليك سأذهب بك الى المستشفى حالا،
الفتاة الوديعة: لا تكلف نفسك يا أبي يوجد مسكن للألم في البيت، الأب لا يا ابنتي الطبيب المختص هو الذي سيكشف على حالتك وسيصف لك الدواء المناسب، الفتاة الوديعة: حسنا يا أبي لنذهب، وعند وصولهما وقعت الفتاة مغمى عليها من شدة الألم، حملها والدها على صدره وأوصلها الى الطبيب فقام بفحصها، وطلب عمل التحاليل اللازمة لمعرفة علة المرض، أفاقت الفتاة من غيبوبتها بعد أن تلقت العلاج السريع، أحست بارتياح وطلبت من والدها العودة الى البيت، وعند عودتهما لم يخبرا الأم مريم بما حدث، الجميع التزم الصمت، في اليوم التالي ذهب جعفر الى المستشفى لأخذ نتيجة الفحوصات والتحاليل، استقبله الطبيب ببرود وهدوء وسكينة، أخبره بلطف بعد أن أعطاه جرعة توعوية وأنك رجل تتحمل الصعاب، وهذه مشيئة الله، الفتاة يا جعفر مصابة بمرض خطير وهو سرطان في الدم، كان هذا الخبر كالصاعقة نزلت على رأس جعفر، فتساءل هل من عمل سريع نستطيع أن ننقد الفتاة؟
الطبيب: يمكنك الذهاب بها إلى مستشفى متخصص بمدينة الرياض لعل الله يشفيها على يد الأطباء هناك،
خرج جعفر من المستشفى وهو في حالة يرثى لها، وصل بيته واستقبلته الأم مريم، فرأته كئيبا حزينا والدموع أخذت تنهمر على خديه.. وهو في حيرة من أمره كيف يخبرها؟ وعند الحاح مريم لمعرفة أسباب حزنه، قال لها أن الفتاة تعاني من مرض خطير يا مريم!!
مرض خطير؟ كيف؟
أخبرني هل ستموت ابنتي أم ستعيش؟؟ أرجوك أخبرني!!
أخذ الجميع في بكاء وعويل وحيرة لم تمر عليهم من قبل.. ذهبت الأم الى ابنتها لتراها وتحضنها وتقبلها من حيث لا تشعر بالأمر.. ولكن الفتاة الوديعة كانت تعرف مسبقا عن مرضها الذي من المتوقع أن يؤدي بحياتها في أية لحظة.. رأتها والدتها وهي جالسة تدعو الله وتناجيه بصوت خفي رافعة كفيها الى السماء متضرعة الى بارئها أن يغفر لها ما تقدم من ذنب وما تأخر، وأن يغفر لوالديها واخوانها ومن يعز عليها..
وبالمقابل كان هناك أخ لها يكبرها سنا اسمه عبدالله، كان يحب اخته حبا لا مثيل له بين الأخوة في هذا الزمان، فعندما سمع بالخبر أجهش بالبكاء وقال كيف لي أن أتخيل البيت بدون أختي العزيزة؟
حاول عبد الله بكل جهده أن يخفف عن شقيقته ألمها، فأخذ يتذكر معها أيام الطفولة البريئة التي عاشاها معا تحت ظل والديهما الحنونين، ولم يكتف عبد الله بهذا بل راح ينثر أمامها الصور الجميلة التي صورها معا في المتنزهات والأماكن العامة.. لقد أمضى عبد الله ليلته مع شقيقته وهو في حسرة، لماذا؟ لأنه سمع عن هذا النوع من المرض بأنه يفتك بصاحبه وهو ما حدث لأحد أبناء بلدته قبل أشهر.
أحد جيران الأب جعفر قد أشار عليه بالذهاب بالفتاة الى بريطانيا.. عمل جعفر بنصيحة جاره، ولأنه لا يملك من المال الذي يكفيه للسفر خارج البلاد، اضطر لبيع ذهب زوجته واقتراض مبلغ جامد من أحد البنوك لكي يمكنه من السفر مع ابنته، فحصل له ما يريد، وعندما وصل الى أحد المستشفيات العالمية هناك قدم الفحوصات الى أحد الأطباء فأجابه بمثل ما أجابه الطبيب في بلده، وكلما ذهب الى طبيب وقام بالفحوصات أخبره أنه لا أمل في الشفاء ولا تتعب نفسك..
أراد جعفر الرجوع ولكنه لم يفقد الأمل بالله عز وجل، فقام برحلته الطويلة من بلد الى بلد والنتيجة مع الأسف الشديد كما هي..
قفل جعفر راجعا بابنته الى بلده قاصدا بيته.. وعندما رأت الأم تقاعس الأب والإستسلام، قررت هي الذهاب بابنتها الى مستشفى الرياض التخصصي، ولكن جعفر يأبى ذلك، فقرر أن يعمل بنصيحة طبيب المدينة، فرفع سماعة الهاتف وقام بحجز ثلاثة مقاعد في أقرب رحلة مسافرة الى الرياض، وعلى الله كل شئ..
وبعد أيام كان الأب جعفر والأخ عبدالله والفتاة الوديعة على موعد مع رحلة طيران إلى الرياض، حيث المستشفى التخصصي، وبقت الأم مريم مع رضيعها في البيت تترقب وتعد الدقائق والأيام، وهي في غمرة مع ذكرياتها والفتاة حيث الصور الجميلة التي تجمعهم، ولكي لا تكون وحيدة مع رضيعها كانوا أهلها الى جانبها لتسليتها وتهدئتها..
فكانت مدة غياب المسافرين حوالي الأسبوعين، وفي ذات صباح رن الهاتف!! كان الأب جعفر يوصل الأخبار أولا بأول في مساء كل يوم، ولكن هذه المرة في الصباح الباكر!! أخذت الأم مريم سماعة الهاتف وأجابها جعفر أدعي الى ابنتك فهي على موعد بعد قليل مع عملية مصيرية، فإنني قرأت في السير وكتب التاريخ عن الرسول (ص) أن دعاء الأمهات لأبنائهن وبناتهن مستجاب، لم تتوان الأم مريم عن أداء الواجب، فدخلت غرفتها وجلست على المصلى بعد أن أسكتت صغيرها تناجي ربها وتدعو وتطلب الشفاء العاجل لإبنتها، واستمرت على هذا النحو حتى ذهبت في سبات عميق ورأت ابنتها في عالم الرؤيا وكأنها عروس ترفل بالصحة والعافية وترتدي ثوبا قشيبا لا مثيل له، وكان ذلك الحلم الجميل لم يكد ينتهي لو لا أن أيقضها رنين الهاتف، فقامت مسرعة لعله الخبر السعيد، نعم أنا جعفر بشراك يا مريم لقد نجحت العملية وأصبحت ابنتنا بعيدة عن شبح الموت، انها تتعافى بسرعة ببركة الله عز وجل ودعائك أيتها المرأة الصالحة،
السعادة غمرت الأم ولم تعلق على شئ، هذا يكفي!!
المهم متى تعودون؟
كلي شوق لرؤية ابنتي حبيبتي..
قال جعفر: كلها أيام معدودة ونكون جميعا عندكم..
الأم مريم: سأنتظركم بفارغ الصبر،
مريم قامت تنظف البيت وترتبه وتجهز لفتاتها غرفتها الجميلة، فوضعت الزينة وجلبت أجمل الورود والأزهار.. وساعدنها أهلها في تجهيز كل ما يلزم عمله تمهيدا لاستقبال المسافرين..
وبعد أيام وصل الأب جعفر والفتى عبدالله والفتاة الوديعة الى منزلهم مسرورين، فاستقبلتهم الأم وكذلك جميع الأهل بالزغاريد والأناشيد البديعة المحببة للنفس، فعاش الجميع بعدها في فرح ووئام ببركة ما من الله عليهم بشفاء ابنتهم..